أهم القضايا المتعلقة بتطور عناصر القصيدة الحديثة في سياقها
العام هي:
تطوير اللغة
اللغة جزء من الشكل، تنمو بنموه، لكن نموها لم يتجه في اتجاه واحد، فبعضها
يتعلق بشخصية كل الشاعر على حدى، والآخر بالإقليم الذي ينتمي إليه،
والعلاقة التي تربطه بالثقافة الأجنبية، والتباين الواضح بين تجارب الشعراء.
والخلاصة أنه ليس هناك خاصية واحدة للغة بل خاصيات عديدة، وأشار الناقد محمد
النويهي إلى أن
أهم ما يميز الشعر الحديث مسألتين: "مسألة اقترابه من
لغة الكلام اليومي؛ وثانيهما خروج شكله الجديد عن عادة القواعد العروضية
القديمة". (مقدمة من كتاب: قضية الشعر الجديد، محمد النويهي، ص5).
2.الملامح الحقيقية للغة الشعر الحديث:
تتبع الباحث اللغة في الشعر
العربي الحديث، واستخلص مجموعة من الملامح:
الملمح الأول: النفس التقليدي
في لغة الشعر الحديث.
ويتضح ذالك من خلال استعمال شعراء هذا الإتجاه للعبارات الفخمة، والأسلوب
المتين حتى حين يعالجون مواضع أكثر حداثة، كما الحال عند السياب الذي استعمل
تعابير تقليدية مثل: (خيف النخل ـ العارض السحاح ـ الإكثار من
الصيغة الصرفية فعللة: هسهسة ـ تهزهز ـ تهدهد ـ لولوة.. ومعاملة غير العاقل
معاملة العاقل تشبها بأساليب الأعراب).
الملمح الثاني: البعد عن لغة
الحديث اليومي.
من المعلوم أن لغة الحديث
اليومي هي لغة نفعية، مرتبطة بحياتنا اليومية، في حين تميل اللغة
الشعرية الحديثة إلى
المثالية، فاستشراف شعراء الحداثة إلى التغيير، والمستقبل جعل هذه اللغة تبتعد عن
اليومي، وربط الشعراء بين
الكلمات بروابط غير متوقعة مما يدهش المتلقي لهذا الشعر، نجد مثلا هذه
اللغة حاضرة في شعر عفيفي
مطر، أدونيس، وصلاح عبد الصبور: (القمر الجائع ـ يخيط جرح الماء...)
الملمح الثالث: السياق
الدرامي للغة الشعر الحديث.
عندما كان الشاعر التقليدي يبدع قصيدته، فهو غالبا ما يوجهها، ويخاطب
بها غيره، أما الشاعر الحداثي، فيهتم أكثر بمخاطبة ذاته، فيما يشبه حوارات
ذاتية، أو المناجاة الداخلية/ الجوانية، فتكثر في قصائده الإيماءات،
والإشارات، والهمسات، والصور المقتضبة. وتتبع الباحث هذه الخاصية من
خلال شعر محمد الفيتوري، وقصيدته: "معزوفة لدرويش متجول".
الملمح الرابع: التعبير
بالصورة في الشعر الحديث.
عمل شعراء الحداثة على التخلص من تسلط التراث البياني التقليدي، وفتحوا
آفاقا جديدة ورحبة، وتوسيع أفق الصورة البيانية لتتسع لأكبر الإحتمالات
الدلالية، والمتصلة بأعماق التجربة الشعرية كما هو الشأن في قصيدة:
"بويب" لبدر شاكر السياب. كما لجأ الشاعر الحداثي أحيانا إلى الحد من جموح
الصورة الشعرية، والتقليل من إمكانيات التمدد والتوسع بربطها بسائر صور
القصيدة.
وتتمتع الصورة البيانية بالخصوبة ـ خصوصا ـ عندما ترتبط بتجربة الشاعر. كما
تستمد الصورة الجديدة حيويتها من ثقافة الشاعر، فتصبح قناعاته ترفد
المضمون، وتنعكس على الشكل بفيض عاطفي يجعل الصور توغل في الغرابة، مما أبعد تجرب
الشعراء الشعرية عن أذواق الناس.
كما أورد الباحث عوامل أخرى
كانت وراء نفور الناس من الشعر الجديد، وهو الإطار الموسيقي:
تطور الأسس الموسيقية للشعر الحديث
إن لجوء الشاعر الحديث إلى القوالب الموسيقية التقليدية بأشطره المتساوية،
وقوافيه الموحدة لا يمكن اعتباره إخلالا بالقاعدة المتعلقة بتطور
المضمون والشكل في القصيدة الحديثة فهو لم يشأ أن ينسف الأصول إلا بمقدار ما
يسمح بالتعبير عن عواطفه وأفكاره دون عوائق، فارتفعت أصوات تنادي بجعل
التفعيلة أساسا لعروض جديد، والتصرف في عدد التفعيلات في السطر الشعري، مع
الإلتزام بالتفعيلة الواحدة.
الأسس الموسيقية للشعر الجديد
فرضت الأوزان الشعرية نفسها على ذائقة الجمهور والناس بسبب جماليتها طيلة
خمسة عشر قرنا، وكل المحاولات التي سعت إلى كسر النظام التقليدي كالموشحات،
والرباعيات، والخماسيات، لم تكن سوى تنويعات على هذا النظام. وقد عمل
الشعراء ـ وفي كل العصور ـ على إحداث نوع من المرونة في هذا الإطار الموسيقي
بلجوئهم إلى الزحافات والعلل لتكسير وحدات الإيقاع، والتخفيف من صرامته،
كما أفادت من في إطار الإيقاع الداخلي من موسيقى الحروف اللينة والحروف
الصلبة لتشخيص العواطف والأفكار. كقول الخنساء:
إن تفتيت الإطار الشعري القديم ذي الشطرين المتوازيين بدأ بالبحث عن
تسمية بديل لوحدة البيت التقليدي. فنازك الملائكة سمته: الشطر. أما عز
الرين إسماعيل فسماه: البيت. وهناك اختلاف بين البيت الشعري الحداثي والبيت
الشعري التقليدي، يتمثل ذالك في:
أ ـ البيت الشعري الحداثي لا
يعتبر وحدة موسيقية ذات أصول تابثة، فطوله وقصره مرتبط بالنسق الشعوري والفكري
للشاعر.
ب ـ عدد البحور الشعرية في الشعر الحديث أقل منه في الشعر القديم (ينظم
الشعر الحديث على ستة بحور، وتسمى البحور الصافية: (الهزج ـ الرجز ـ الرمل ـ
الكامل ـ المتقارب ـ المتدارك)، لكن بإمكان الشاعر أن يستخلص من البحر
الواحد عددا لا يحصى من التشكيلات الموسيقية. كما استعمل البعض منهم في
بعض قصائدهم البحور المختلطة كأدونيس. ويرجع الباحث سبب عدم استغلال
شعراء الحداثة لهذه البحور المختلطة إلى عوامل عدة وهي:
4 ـ مسألة التدوير: فإذا كان البيت الشعري في الشعر الحديث لا ينضبط في
عدد التفعيلات إلا للدفقة الشعورية والفكرية، فإن هذه الدفقة قد تتجاوز
حدود الشطر الشعري أو البيت الشعري بمفهومهما التقليدي مما يترتب عليه
أمرين:
الأول: التعبير عن الدفقة
الشعورية والفكرية دون اللجوء إلى التدوير، أي تفعيلة خماسية.
الثاني: الوقوع في التدوير وإشراك سطر البيت في كلمة واحدة، بأن يكون بعضها
في الشطر الأول، وبعضها في الشطر الثاني. وقد فتح التدوير آفاقا أخرى
للشاعر الحديث لكي يتخلص من صرامة البيت ذي الشطرين، ومن انتظامه في نسق
هندسي رتيب.
4. نظام القافية في الشعر الحديث:
عمل شعراء الحركة الذاتية قبل الشعر الحديث على التنويع في القوافي،
فربطوها بالمعاني الجزئية داخل القصيدة الواحدة، وظل اجتهادهم محصور في هذا
الإطار. لكن شعراء الحداثة، وموازاة مع ما أحدثوه من تغيير في نظام البيت
الشعري، فقد انعكس ذالك على نظام القافية باعتبارها جزء من البناء العام
للنص. وسجل الباحث أحمد المعداوي ثلاث ملاحظات في هذا الإطار:
الأولى: ميل الشاعر الحداثي إلى التعامل مع القافية بصفتها نظاما إيقاعيا
يتكون من عدة أحرف مع الحد من بروز حرف الروي، لأن بروزه من شأنه أن يحد
من حركة تدفق المعاني، والمشاعر ويربكها. وتطلب هذا من الشاعر أن يتوفر
على ثروة لغوية كان الشاعر التقليدي يعلق عليها أهمية بالغة.
الثانية: الربط بين نظام قوافي الأضرب المتنوعة والقافية،اعتقادا من الشاعر
أنه من شأن اختلاف الأضرب أن يحدث إخلالا في نظام القافية.
الثالثة: علاقة نظام القافية
في الشعر الحديث بالجملة الشعرية والتي تتحد في نظر الباحث في نقطتين:
الأولى: تتعلق بالجملة الموسيقية المسرفة الطول، والتي تمتد فيها الدفقة
الشعورية امتدادا يغني بتدفقه عن الوقفات المنتظمة التي تحتاج إليها الأبيات
الشعرية القصيرة.
الثانية تخص الجملة الموسيقية المتوسطة الطول الواقعة بين الجمل الطويلة،
واعتاد الشعراء في مثل هذه الجمل أن يعوضوا عن القافية المتواترة
والمترادفة في آخر البت بقافية ذات نبر بارز يختمون بها جملهم المتوسطة.
وأهم ما يميز نظام القافية في
الشعر الحديث هو المرونة التي تستمدها من قوة المشاعر والأفكار.