النقد الاجتماعي



نموذج تحليلي  للمقالة النقدية الاجتماعية " القدماء و المحدثون" لطه حسين


لقد تعددت المناهج النقدية فبعضها يقرأ النص في ظل شروط انتاجه، كالنقد الاجتماعي الذي يعتبر الجماعة منتجة للنص ويربط بين الادب ومحيطه الاجتماعي والتاريخي، وقد استمد هذا المنهج مفاهيمه من علم التاريخ والاجتماع و الاقتصاد، والنقد النفسي الذي يعتبر الفرد منتج للنص ويتخذ الفرد كمفتاح لقراءة النص، او يتخذ النص كمفتاح لشخصية الاديب وقد استمد هذا المنهج مفاهيمه من علوم النفسية وخصوصا نظرية فرويد في التحليل النفسي. وهناك مناهج أخرى تركز على النص ذاته باعتباره نظاما 
له قواعده الخاصة به (البنيويون: الشكليون والهيكليون) ويستمد هذا المنهج ادواته ومفاهيمه من علوم اللغة واللسانيات.
وأخيرا هناك مناهج تعتبر النص كخطاب من مبدع الى مرتقي، أي تربط بين النص والقارئ (نظرية الإنتاج وجمالية التقبل)، وهذا المنهج يستمد ادواته ومفاهيمه من علم النفس المعرفي والنظرية التواصلية التي تدرس الخطاب بأطرافه.
والنص لصاحبه طه حسين الذي تميزت حياته بميزتين. الأولى هي تحدي الصعاب، اذ رغم عماه ورغم نشأته في اسرة متوسطة وكثيرة الافراد، ورغم كونه ولد بالصعيد المصري، فقد استطاع الالمام بأصول الثقافة العربية اثناء الدراسة في الكتاب والازهر، والالمام بالثقافة الغربية اثناء الدراسة الجامعية بمصر وفرنسا. كما استطاع الحصول على مراكز علمية وسياسية مهمة. والميزة الثانية هي تأكيده على أهمية العقل والعلم. ويتجلى ذلك في استخدامه العقل والمنهج العلمي والتسلح بمبدأ الشك الديكارتي في دراسة تراث الادب العربي، واستخدام أدوات نقدية مستمدة من مناهج النقد الغربي وخصوصا النقد الفرنسي.
وقد تميز الإنتاج النقدي عند طه حسين بالتجديد ورفض التقليد واستخدام منهج تاريخي، علمي، عقلي، ذوقي، تأثيري، انطباعي، ذاتي (منهج علمي فني). ومن مؤلفات طه حسين ّ"فلسفة ابن خلدون"، "في الشعر الجاهلي"...

ملاحظة النص:

وبناء على العنوان و البداية نفترض ان نوع النص مقالة نقدية أدبية، وموضوعه هو ظاهرة التجديد في الشعر بين القدماء والمحدثين. والمنهج النقدي المتبع في دراسة الظاهرة، منهج اجتماعي تاريخي يربط بين الظاهرة الأدبية ومحيطها الاجتماعي وظروف انتاجه.
ونفترض أخيرا ان أسلوب النص ولغته حجاجيه جدالية.
النقد الاجتماعي

فهم النص:

وقد تضمن النص الأفكار التالية:
+ العصر الاموي عصر تجديد قوي في لفظ الشعر ومعناه ومحاولة التجديد في موضوع الشعر أيضا.
+ عدم التحقق التام بمحاولة التجديد في موضوع الشعر تعود لعصر الاموي واضطرابه واتباعه للعصر العباسي. وتجدد الحياة في العصر الاموي بفعل سيطرة العرب على بلاد الفرس وتميز حياة الطبقة العليا بوفرة الأموال والغنائم، واضطلاع العرب على نظام جديد في الحكم والسياسة والإدارة، وانتقاله من حالة البداوة الى حالة الحضارة في العمران ونظام الحكم والفكر والشعور، واضطراب الامة العربية بين نظام العصبية القبلية ونظام الخلافة الإسلامي ونظام الملك الفارسي.
+ تجدد الشعر بشكل يناسب تجدد الحياة وظهور نوعان جديدان من الشعر أولهما الغزل.
+ انقسام شعر الغزل حسب الشعراء وظروف حياتهم الى:
× غزل اباحي تزعمه عمر بن ابي ربيعة، وقد ظهر بمدن الحجاز وشعراءه مترفون وشعرهم يهتم بوصف المظاهر الجسدية وللذات.
× غزل عفيف يهتم بوصف العواطف الصادقة والمعاناة، وشعراءه من اهل البادية.
× غزل الشعراء المتوسطون بين هذين الفنين كالفرزدق وجرير، حيث اصبح غزلهم مخالف لغزل الجاهلين من حيث رقة اللفظ وسهولته ودقة المعنى.
من خلال الأفكار السابقة تستنتج ان الكاتب يعرض قضية أدبية ويقدم براهين وادلة عنها، ويستقي براهينه وادلته من محيط الادب وسياقه الاجتماعي. لكن احكامه لا تخلو من بعض الاحكام الانطباعية التأثيرية والذاتية.

التحليل:

اما خصائص الخطاب النقدي عند طه حسين وسمات منهجه فيمكن رصدها كالتالي:

1. المسار الذي اتبعه الناقد في تقويم الظاهرة والحكم عليها

اتبع الناقد مسارا منهجيا متدرجا ومحكما في عرض رأيه النقدي اذ اتبع الخطوات التالية:
+ طرح القضية ومفادها ان العصر الاموي عصر تجديد قوي في اللفظ وفي المعنى والموضوع لكن محاولته لم توفق.
+ ربط الظاهرة بعوامل وأسباب وذلك كالتالي:
×عوامل موضوعية وذلك من خلال إقامة معادلة بين محاولة التجديد في العصر الاموي (أي بين الظاهرة الأدبية وبين طبيعة العصر) فمحاولة التجديد لم توفق تماما لان طبيعة العصر انتقالية ومدته قصيرة وكان عصر اضطراب.
× بعد ذلك يفسر الظاهرة الأدبية بمعطيات خارجية تنتمي الى محيط الادب نذكر منها:
-المعطيات السياسية التي تتجلى في اضطلاع العرب على نظم الحكم والسياسة والإدارة في البلدان المفتوحة، ومحاولتهم استبدال الخلافة البداوية بالملك الحضري، وتأرجح الامة العربية بين العصبية القبلية وبين الخلافة الإسلامية والملك الفارسي.
-المعطيات الاجتماعية كيسري الحياة وسهولتها واستبدال الخيام بالدور والقصور....
-المعطيات العرقية التي تتجلى في اختلاط العرب بالروم والفرس والتميز بينهم على صعيد الحياة العامة و على الصعيد السياسي، فالروم يسكنون الدور والقصور، وعرب بني امية يسكنون الخيام. والفرس والروم يعتمدون نظاما ملكيا والمسلمون يعتمدون نظام ديني وهو الخلافة، وبني امية نظامهم عصبي يقوم على القبلية.
ثم انتقل الى رصد العوامل الذاتية التي أدت الى بروز الظاهرة الأدبية. فاذا كانت العوامل الموضوعية قد أدت الى نشوب نوع من شعر الغزل، الأول اباحي والثاني عفيف. فلا بد من تقديم ادلة تميز بينهما. ومن خلال الاعتماد على عوامل ذاتية نميز بين الشاعرين، وهذه العوامل هي:
×سيرة الشاعرين.....فعمر ابي ربيعة اقام بمكة ووصف المرأة وتغزل بها وعاش حياة لذة وترف، اما جميل فقد امضى حياته في البادية واقتصر شعره على حب بتينة.
×البيئة المحلية للشاعرين....فعمر من بيئة وجميل من بيئة بدوية وفقيرة
بعد ذلك يرصد الخصائص الفنية....فالغزل الاباحي اتخذه صناعة لوصف اللذة والاهواء، في حين يهتم الغزل العفيف بوصف العواطف والمعاناة والالم، وغزل المتوسط من الشعر رق ولطف اللفظ ومعنا و اصبح لفظه جميلا وخفيفا على السمع.
وفي النهاية اصدر حكما ايد فيه حكمه الافتراضي مؤكدا ان فن الغزل هو الفن الأول الذي استحدته شعراء بني امية.

2. الأدوات النقدية الموظفة في النص ومرجعتيها النظرية:

لقد استند طه حسين في تطرقه للظاهرة الأدبية على مناهج النقد الغربي الذي يدرس الظاهرة في ضوء عناصر المحيط، ولهذا نلمس بعض نقط الالتقاء بينه وبعض النقاد، خاصة الفرنسين.
فهو يلتقي مع سانت بوف الذي يدرس الظاهرة الأدبية من خلال الهيئة الجسمية والثقافة والسيرة. ويتجلى ذلك في النص من خلال الاستدلال بسيرة الشاعرين وكذلك ملامحهما النفسية ولذتهما الجسمية.
كما ان الناقد يلتقي ويتأثر بايبوليت ادولف تين الذي يحلل الظاهرة الأدبية من خلال عوامل العرق والوسط والزمن، وذلك واضح في النص كما يلي:
"فالعرق هو إسلامي اموي والزمن فترة بني امية، والوسط الحجاز ومكة والمدينة.
وفي نقد طه حسين بصمات من المنهج العقلي (المستمد من فلسفة ديكارت) الذي يعتمد على النقد الفاحص وعدم التقيد بالآراء المسبقة دون فحصها، ويتجلى ذلك في النص اثناء تعليله صعوبة انتماء شعراء الغزل الحقيقي الى البادية، اذ يقول "" من العسير تعليل هذا، فنحن نعلم من اخلاق العرب البادين انهم الى المادة والاباحة، اقرب منهم الى هذه الحياة العذرية""  "" نفترض ان شعرا جديدا اخر يتأثر بالنفوس....ولكن هذا افتراض لم اوفق الى تحقيقه بعدّ ""
وقد تاثر الناقد بالمنهج الانطباعي والمنهج التقليدي اللغوي والبلاغي، أي انه قد يقيد منهجية الناقد رواسب من مناهج النقد العربي القديم التي تعتمد على الانطباع والذوق وإصدار الاحكام الذاتية، ويظهر هذا في قول الناقد عن ابيات جرير "" فانظر الى هذا الشطر الأخير "" "" انظر الى جمال لفظه وسهولته وخفته على السمع وحسن موقعه من النفس""
ومن خلال تحديدنا مرجع النظرية لمنهج طه حسين النقدي، نستخلص ان الأدوات النقدية التي استعملها تتراوح بين الاعتماد على منهج علمي ومنهج عقلي ومنهج ذوقي انطباعي. ونلاحظ كذلك ان منهج صاحبنا -النقدي- يتسم بالألية. اذ ان العلاقة بين الظاهرة الأدبية والمحيط الية اوتوماتيكية، حيث يؤثر الثاني في الأول ومن الأدلة على ذلك العلاقة التي ربطها الناقد بين قصر مدة العصر الاموي واضطرابه وبين عدم إتمام التجديد في الشعر، والعلاقة الالية بين فتح الامويين لبلاد الروم والفرس وظهور نوعين جديدين من الشعر، أولهما الغزل، وكذلك الربط الالي بين المدينة والغنى وظهور الغزل الاباحي، وبين البادية والفقر والغزل العفيف.

3. أسلوب النص ولغته:

اما من حيث الأسلوب، فقد تميز النص بسمات من يملي شفهيا ومن يخاطب طلابا، وذلك لان الكاتب ضرير. ومن خصائص هذا الأسلوب ان الكاتب يعبر عن أفكاره بأسلوب شيق يتأنى في عرض الفكرة ساعيا الى الإحاطة بكافة جوانبها، معتمدا في التكرار وفي الالفاظ واستعمال الجمل المترادفة، وتوظيف الجمل الطويلة وأدوات العطف مما يضفي على موسيقى جذابة ويرجع ذلك الى عماه وانشغاله بالتدريس.
ويحمل النص خصائص المقالة الحديثة، اذ تخلص من أسلوب الصنعة وعبر بوضوح وجلاء عن الأفكار واحترام وحدة الموضوع وترابط الأفكار وتماسكها الى جانب استعمال المصطلح النقدي الجديد وقرب الفكرة ووضوح المعنى، كما يوظف طريقة حوارية مستعملا ضمير المخاطب في حديثه مع القارئ، وذلك رغبة في احداث التواصل الذهني والنفسي بينهما.

تركيب:


وهكذا يتضح ان الناقد فسر الظاهرة الأدبية في ضوء عوامل المحيط واعتبرها نتاجا وانعكاسا اليا للظروف السياسية والاجتماعية والعوامل البيئية وعناصر السيرة والعرق، كما احتكم الى العقل والمنطق دون ابعاد جانب الانطباع، مما جعل منهجه النقدي تكامليا توافقيا يجمع بين المناهج ليخلق منهاجا واحدا.

يمكنك الاطلاع ايضا على:

نموذج تحليلي للمقالة النقدية النفسية ابن الرومي من خلال نفسيته وتجاربه لمحمد النويهي
نموذج تحليلي للمقالة النقدية النفسية نرجسية الشاعر المتنبي ليوسف اليوسف
نموذج تحليلي للمقالة النقدية البنيوية "القصة القصيرة والاسئلة الكبيرة" لنجيب العوفي
تحليل مقالة ريادة الادب لزاكي نجيب محمود

No comments:

Post a Comment

مرحبا بكم على مدونة تحليل النصوص الادبية و النقدية

Popular Posts

Labels

أهم القضايا المتعلقة بتطور عناصر القصيدة الحديثة التطور التدريجي في الشعر الحديث الثورة الرومنسية في الوطن العربي الحركة الإحيائية في الشعر العربي الشكل الجديــــد للشعر العربي القراءة التحليلية لمؤلف ظاهرة الشعر الحديث الكفايات المستهدفة الخاصة في مادة اللغة العربية : بالتعليم الثانوي التأهيلي: السنة الثانية من سلك البكالوريا المنهج الاجتماعي تحليل المقالة الادبية تحليل النص المـسـرحي تحليل قصة العصفور على الشجرة ولا شيء في اليد لأحمد بوزفور تحليل قصة شغلانة ليوسف ادريس تحليل قصيدة احمد الزعتر لمحمود درويش تحليل قصيدة اخشى ان تطول حياتي لحافظ ابرهيم تحليل قصيدة اغاني مهيار الدمشقي لأدونيس تحليل قصيدة اغنية ريفية لعلي محمود طه تحليل قصيدة المساء للشاعر ايليا ابي ماضي تحليل قصيدة المواكب للشاعر جبران خليل جبران تحليل قصيدة النهر المتجمد لمخائيل نعيمة تحليل قصيدة رحل النهار لبدر شاكر السياب تحليل قصيدة قف بالمعرة لمحمد مهدي الجواهري تحليل قصيدة متى يكتب العرب ملحمة لمحمد الحلوي تحليل قصيدة منك ياهاجر دائي لأحمد شوقي-خطاب البعث والاحياء تحليل قصيدة ميميه في الفخر لمحمود سامي البارودي تحليل قصيدة نسر لعمر ابي ريشة تحليل قصيدة نهاية السلم لنازك الملائكة تحليل قصيدة وكر النسور لبشارة الخوري تحليل مسرحية اسمع يا عبد السميع لعبد الكريم برشيد تحليل مسرحية عندما يلعب الرجال لسعد الله ونوس تحليل مقالة النقد والقومية العربية لعبد الله كنون تحليل مقالة ريادة الادب لزاكي نجيب محمود تطوير اللغة في الشعربي الحديث تعريف المسرح و مكوناته تعريف المسرحية تعريف المقالة خصائص خطاب البعث والاحياء طريقة تحليل القصة القصيرة عناصر القصة كيف احلل القصة القصيرة مراحل التعامل مع الادب العربي : مميزات الكتابة المسرحية منهجية تحليل القصائد الحديثة منهجية تحليل النصوص الاجتماعية: المنهج الاجتماعي منهجية تحليل النصوص البنيوية: المنهج البنيوي منهجية تحليل شعرخطاب المعاصرة و التحديث منهجية تحليل قصائد خطاب البعث و الإحياء منهجية تحليل قصيدة الخطاب الرومانسي منهجية تحليل قصيدة خطاب البعث و الاحياء منهحية تحليل النص المسرحي مهارة تحليل القصيدة الشعرية مهارة تفسير قضية نموذج تحليلي للمقالة النقدية الاجتماعية " القدماء و المحدثون" لطه حسين نموذج تحليلي للمقالة النقدية البنيوية "القصة القصيرة والاسئلة الكبيرة" لنجيب العوفي نموذج تحليلي للمقالة النقدية النفسية ابن الرومي من خلال نفسيته وتجاربه لمحمد النويهي نموذج تحليلي للمقالة النقدية النفسية نرجسية الشاعر المتنبي ليوسف اليوسف نموذج من شعر احمد شوقي: اندلسية: نموذج من شعر علال الفاسي: تحليل قصيدة ذكريات وعهود